نبذة عن الكتاب
هُنَاكَ، فِي ذَلِكَ الفَرَاغِ البَيْنِيِّ، حَيْثُ تَتَلَاقَى الحُدُودُ وَتَتَشَابَكُ العَوَالِمُ، يَتَرَدَّدُ صَدَى أَرْوَاحٍ هَائِمَةٍ، مُحَلِّقَةٍ بَيْنَ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ. لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أَشْبَاحٍ تَاهَتْ فِي طُرُقِ المَنْسِيِّينَ، بَلْ هِيَ تَرَانِيمٌ مَخْفِيَّةٌ، هَمَسَاتٌ تَسْكُنُ الرِّيَاحَ، وَتَتَسَلَّلُ فِي جُذُورِ الأَشْجَارِ العَتِيقَةِ، وَتَنْسَابُ فِي أَنْفَاسِ الأَرْضِ كَنَبْضٍ لَا يَخْمُدُ.
لَكِنَّ الأَرْضَ تَتَكَلَّمُ بِلُغَةٍ لَا يَفْهَمُهَا الكَثِيرُونَ. فِي كُلِّ صَخْرَةٍ مُتَآكِلَةٍ، فِي كُلِّ وَرَقَةٍ ذَابِلَةٍ، فِي كُلِّ مَوْجَةٍ تَنْحَسِرُ وَتَعُودُ، يَكْمُنُ سِرٌّ أَقْدَمُ مِنَ الزَّمَانِ، وَحِكَايَةٌ لَمْ تُرْوَ بَعْدُ.
بَيْنَ عَالَمِ الأَحْيَاءِ وَمَا وَرَاءَهُ، تَسْكُنُ كَائِنَاتٌ غَامِضَةٌ، مَسْخُوطَةٌ وَمُشَوَّهَةٌ، أَرَواحٌ مَطْرُودَةٌ مِنَ النُّورِ، تَسْتَظِلُّ بِالجُدْرَانِ الخَفِيَّةِ، تَنْظُرُ إِلَى البَشَرِ بِأَعْيُنٍ خَالِيَةٍ مِنَ الرَّحْمَةِ، تَتَرَقَّبُ، تَنْتَظِرُ، وَتُهَمْهِمُ تَرَانِيمَهَا فِي ظَلامِ المَجْهُولِ.
وَهُنَاكَ، فِي أَنْفَاسِ الحَيَوَانَاتِ الصَّامِتَةِ، فِي عُيُونِهَا المُتَلَأْلِئَةِ بِسُؤَالٍ لَا يُجَابُ، فِي جُذُوعِ الأَشْجَارِ الَّتِي قُطِعَتْ وَالحِجَارَةِ الَّتِي تَشَقَّقَتْ، يَتَرَاكَمُ أَثَرُ زَمَنٍ قَدِيمٍ، وَحُلْمٌ أَبَدِيٌّ بِالخُلُودِ.
تَرَانِيمُ الأَرْوَاحِ الخَالِدَةِ… هِيَ الصَّوْتُ الَّذِي لَا يُسْمَعُ، النِّدَاءُ الَّذِي يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الظِّلَالِ، الذِّكْرَى لِكُلِّ مَا فَقَدْنَاهُ وَكُلِّ مَا سَيَكُونُ. إِنَّهَا دَعْوَةٌ لِكُلِّ مَنْ يَجْرُؤُ عَلَى الإِصْغَاءِ، لِمَنْ يَسْمَعُ فِي الهَمَسَاتِ قِصَّةً لَمْ يُكْتَبْ لَهَا نِهَايَةٌ، وَلِمَنْ يَدْرِكُ أَنَّ الحَيَاةَ لَيْسَتْ سِوَى أُغْنِيَةٍ سِرِّيَّةٍ، تُغَنِّيهَا الأَرْوَاحُ الَّتِي لَا تَمُوتُ.